الأربعاء، أبريل 11، 2012

قصة: "حذاء خلف الزجاج"



لم يكن يتوقع أن شراء حذاء قد يتطلب منه كل هذا العناء ويستلزم منه تبديد كل هذا الوقت. خرج منذ الصباح في رحلة اضطرارية قصد اقتناء حذاء جديد، بعد أن صارت كل أحذيته الملقاة في صندوق عند ركن الفناء رثة، مرتخية وباهتة اللون أو متقطعة ومتقشرة. وأفضلها حالا هو الذي تنحشر فيه قدماه الآن، تمددت جوانبه اتساعا، وتحول لونه الذي هو في الأصل بني إلى بقع من الألوان، الأحمر والرمادي والأسود بعد فشله المبين في إعادته إلى حالته الأصلية عبر عمليات المسح والتنظيف المتتالية.
لقد كسر حتما رتابة أيامه حين خرج في إثر حذاء بديل، ليس أي حذاء قد يصادفه، بل هو مرسوم في مخيلته شكلا وتصميما وربما لونا أيضا. فهو يكلف نفسه دوما عناء التفتيش والانتقاء ولا يقبل إطلاقا بتبضع أي شيء كان.
وقف أمام الواجهات الزجاجية لمحلات وسط المدينة، حيث سلبته الأحذية أنيقة المظهر، جذابة التصاميم، بألوانها اللامعة ملكات تفكيره، فراح يمني النفس بامتلاك أحدها، وتخيل كيف سيكون شكله وقدماه تطآن الأرض بواسطة ذلك الحذاء الأسود المتوسط للرف ذي الهيبة والجاذبية التي لم يألفها من قبل. حتما ستتغير طريقة مشيه اللامبالية إلى مشية متزنة حريصة، تراقب مواطئ الأقدام وتتفنن في رسم الخطوات.
 تصفعه الأثمنة اللاذعة فيتراجع عن أحلامه، مقلبا دون إدراك جيبه. يبتسم ساخرا أمام وجهه المعكوس على الزجاج، ثم ينحدر ككتلة صخرية صوب زقاق أسفل الشارع حيث محل مشهور ببيع الأحذية المستعملة.
عند مدخله أحذية مكومة فوق بعضها، وبالداخل أخرى يبدو أنها منتقاة، تجاور بعضها فوق الرفوف الخشبية أو معلقة بمسامير عبر حبال متوازية. تمهل قليلا قبل أن يضع يده على أي منها ريثما تمحي من ذاكرته معروضات المحلات الزجاجية. ظلت مقلتاه تنتقلان بخفة بين الأحذية المعلقة دون أن ترتاح لأي منها، فتوجه نحو تلك المكومة. ألقى نظرة شاملة وهو يقلب بعضها. راح بعض التوتر ينتشر عبر أعصابه فاندفع خارجا.
وجد نفسه يمشي بعصبية يتأمل الأحذية التي تسابق بعضها فوق الرصيف أو تقطع الشارع، أو التي رست أمام محل أو عند زاوية ترافقها أخرى أنثوية. ازداد إحساسه سوء وهو يقارنها بحذائه غريب الشكل عجيب اللون، الذي سيكون حتما قد دفع كثيرا من الناس إلى القهقهة بأعلى صوت أو السخرية في صمت.
انسحب بعيدا عن الشارع عندما حل به ارتياب فظيع صور له جميع المارة ينظرون أسفل صوب قدميه، لاجئا إلى إحدى الأزقة الساكنة، محاولا استحضار محل قريب يجد عنده غايته وبثمن مناسب. ثم خطر بباله محل شاسع بأحد الأحياء المجاورة، حتما لن يعود من هناك خاوي الوفاض.
اعتراه الارتياح وهو يتأمل الرفوف الطويلة التي اصطفت فوقها العشرات من الأحذية الجميلة. يتمعن في الأول فيدعوه الثاني لإلقاء نظرة، ثم يجذبه لون حذاء آخر عند الرف السفلي. يسير عبر الرفوف حتى آخرها ثم يعاود الكرة مرة أخرى. لم يتخذ قرارا، وقف حائرا بينها ثم انسحب.
لم يفطن إلى أنه كان يسير صوب محطة الحافلة التي تأخذه إلى بيته إلا حين وقف ينتظر إطلالتها وسط حشد هائل، يفرك جبينه بأصابعه وتضرب إحدى قدميه على الأرض بعصبية.
-     لا يهم، سأعاود البحث يوما آخر في أماكن أخرى.
تجيء الحافلة، ينقض الحشد عليها بشراسة يرفس بعضهم بعضا، بينما يقف هو يتأمل بأسف حذاءه القذر.
يهرول نحو المحل الأخير، يشير بإصبعه إلى أول حذاء تلتقطه مقلتاه طالبا من البائع أن يجهزه، ثم يغادر المحل مبتسما.
إنه حذاء أسود، لكنه ليس كالحذاء الجميل الذي حرك فؤاده من خلف الزجاج. آه، لو كان المرء يعيش بهدف اقتناء حذاء لكان الأمر مختلفا، عندها لن يبالي بالأثمنة الرهيبة، الناس يكافحون قصد الحصول على منزل أو أثاث أو سيارة، يدسون وجوههم في الديون ويطبقون أنظمة قاسية من التقشف جاعلين أيديهم مغلولة إلى أعناقهم، وليس للحصول على حذاء نفيس. وفي المقابل هناك من يشتري أمثال تلك الأحذية دون أن يحس بأدنى وجع في جيبه، ولأمثال هؤلاء صنع وعرض الحذاء الأسود الباهر الأنيق. فكر، وبات الليل يفكر ويحلم ويتخيل.
 تجول في أروقة البيت مرتديا حذاءه الجديد، وجده جميلا ومريحا. لكنه يبقى مجرد حذاء عادي، على الأقل لن يحس بالحرج الذي أحسه وهو يخطو بحذائه الحقير الذي ألحقه أخيرا بجوار إخوته في الصندوق، ثم عاد يتأسف على حذاء المحل الزجاجي.
-     آه، ما باليد حيلة !
نام واستيقظ على صورته، وقبل الإقدام على فعل أي شيء ارتدى حذائه الجديد.
-     الأمر محسوم. لقد اقتنيتك لأنك الأنسب لي ولحالتي.
يجلس إلى المائدة فيقطع صمت إفطاره نداء الرجل الذي يبتاع الأغراض الغير مرغوب فيها بعربته التي يدفعها أمامه، وجدها فرصة للتخلص من حزمة أحذيته القديمة، فسارع إلى اللحاق به قبل أن يختفي عند انعطاف الزقاق.
وقبل أن يسلمه الصندوق أحب أن يلقي نظرة على الأغراض الغريبة التي تمتلئ بها عربته. صينية وإبريق شاي دون غطاء، وسادة متسخة وطاولة تبدو في حالة جيدة وأشياء شبيهة أخرى. و كان من بينها أيضا حذاء، حذاء أسود أنيق يبدو جديدا، شبيه تماما بالذي رآه خلف الزجاج.

من مجموعة  "عينان مفتوحتان في الظلام".

هناك تعليقان (2):

  1. مرحبا توفيق

    ممتع هذا النص

    بالتوفيق

    ردحذف
  2. شكرا جزيلا
    وأعتذر عن تأخر الرد

    ردحذف

معالم الكتابة الروائية في " المحارب القديم " لتوفيق باميدا

يتميز توفيق باميدا بقدرة على السرد، في بناء عوالمه الواقعية والتخييلية، وقد تشكلت هذه العوالم من ثلاث حكايات؛ الحكاية الأولى تتحدث عن الابن ...