الأربعاء، مارس 05، 2014

ألبوم صور: القصة الفائزة في مسابقة "مجلة العربي وبي بي سي عربية" لشهر يوليوز 2013

--------------------------------------------------------------------------------------

لماذا اخترت هذه القصة؟ (منى طلبة: ناقدة وأكاديمية من مصر)
"هي من القصص النادرة التي يتمتع صاحبها بالتمكن من لغة عربية جميلة خالية تقريبًا من الأخطاء النحوية والأسلوبية، قصة محكمة البناء وحتى ماهرة في الاستبطان النفسي لشخصياتها وفي تكريسها لألبوم الصور كأيقونة للحب. إنها قصة حب جمعت بين الراوي وسميرة تواءمت فيها الأرواح وتوجت بخطبة رسمية سرعان ما انفكت لعجز الراوي عن الوفاء بالمطالب المادية لاتمام الزيجة، وظل البطل يعاني فراقه سميرة مجترًا آلامه بمناجاته الليلية لألبوم الصور الذي جمعه بحبيبته في مناسبات عدة. في رغبة الخلاص من مواجعه أرسل لها الألبوم مغلفًا إياه بورقة يستفهم فيها عما إذا كان من الممكن بيع مثل هذه السعادة التي تنطق بها الصور بهذا الثمن الزهيد؟ سميرة تتلقى الرسالة تغضب في البدء ثم سرعان ما تعاود اتصالها به لتنهي مكالمتها والقصة أيضًا بهذا القرار: «هذا الألبوم لا يمكن أن يعيش مع واحد منا دون الآخر، إما أن نحرقه وإما أن نجتمع به، وأنا صراحة لا أستطيع حرقه».

يغوص الراوي في أغوار النفس المحبة، ويلتقط دقائقها كمن يصورها ويجمعها في ألبوم للصور، يقف على ما يعتريها من شعور بالأمل بالانبساط والقوة والجمال وإقبال على الذات بالآخر، وما يعتري ذات النفس من مشاعر اليأس والهوان والانكسار حين ترد إلى وحدتها، وما يشوبها من وساوس واستعذاب للألم حين تجتر ذكرياتها كل حين، ألم تخف حدته حين يلقي البطل بكرة اللهب التي تحرقه إلى مرمى الطرف الآخر الذي تسبب في الفراق وهو سر الراحة التي شعر بها الراوي حين أرسل بألبوم الصور إلى سميرة، وما انتاب سميرة من غضب يبين ما يختلج في نفسها من مشاعر الشعور بجريرة ما صنعت وهول الإدانة، فما خلت إلى نفسها حتى وقر في قلبها أن ما جمعته الصور لا يفرقه إنسان. ذلك أن ألبوم الصور لم يعد ورقًا وإنما متكأ لما هو أبقى، أضحى أيقونة ممثلة لمعنى الحب ذاته شعورا ورسالة وعلاقة واقعية.

ألبوم الصور تجسيد لمشاعر الحب الخفية وتثبيت لمرورها الأثيري بين القلوب، ولتلك اللحظة الجامعة لكل المتقابلات الرجل والمرأة، الأنا والآخر الروحي والحسي، الحب بوصفه الوحدة الأولى المبتغاة، ولتاريخ مواقيت السعادة والمودة، فهو قرار لزمن يفر، ولروابط تشتد عبره، لا يمكن الاستهانة بها لأنها من نسجه الذي لا يمكن استعادته أو تكراره. وهكذا بدا حرق الألبوم تبديدًا لأثير المشاعر ومعجزة التوحد الإنساني ولفعل الزمن، لما يفوق ثمنه على عطايا الكفاية المادية.
--------------------------------------------

         ألبوم صور
          توفيق باميدا – المغرب
-------------------------------------------

حين أعود إلى البيت في وقت متأخر مرهق البدن مشوش الذهن، تمتد يدي للتنقيب في أشيائي القديمة وأغراض لم يعد لها من دور سوى ملء الفارغات، وأفتح نوافذ ذاكرتي المكدسة بالأحداث والمشاهد لعلي أعثر بين خاناتها على شيء يلمع قد يعيد للقلب المنكسر بعض الأمل المنصرف، ويزود العقل المنهك بطاقة تجدد آليات عمله.
وحين أمّل من التنقيب دون أن أتوصل لشيء يذكر أوصد باب الغرفة وأستلقي فوق السرير، ثم أتناول من تحت وسادتي ألبوم الصور، أقلّب صفحاته متأملا صوره بتمحيص وعناية، تاركا البهجة المنبعثة منها تلفني بخيوطها المتعطرة بأريج الأيام المنقضية، فتطبع ذاكرتي على كل صورة أبعاد اللحظة وما سبقها وما تلاها وما أحاط بها. يبتسم القلب بسمة لا يكتمل رسمها حين أبلغ نهاية الألبوم طاويا غلافه الكرتوني. أصحو من حلمي الجميل الذي شاء له الله ألا يكتمل، أطفئ النور وأنحشر داخل الملاءة داعيا كل الأحلام الجميلة لترافقني في نومتي.
سميرة لا تزال حاضرة كنجوم السماء في خيالي، في ذاكرتي وعلى لساني. سميرة شمس أشرقت حين اشتدت حلكة أيامي لتبث نورها دون تردد عبر أوعية فؤادي، وتفرش دفئها بساطات عبر طرقاتي ومجالسي. فور أن تعرفت على سميرة قررت ودون تردد طرق بابها، لتعلن لي ذات يوم من أيام خطبتنا أنني أشبه بالفارس الذي سمعت حكاياته من جدتها وقرأت عنه في قصص طفولتها، وأنها هي أميرة قد حللت أنا لألبسها تاجها.
لكني ربما في الواقع لم أكن قادرا على إلباسها التاج، فالأميرة تحتاج إلى قصر، وسميرة ستحتاج إلى مسكن، والمسكن ليس مجرد جدران وأرضية وسقف. لقد كنت واعيا بما عليّ جيدا. لكن مرور سنة من فترة الخطوبة وأنا بعد عاجز عن إحداث الفرق هو ما جعلني ألمح في عيني سميرة يأسا لم أعده منها من قبل، فلطالما بادلتني شعارات الصمود والتفاؤل وعدم الاستكانة أمام أي شيء قد يعرقل بناء أحلامنا.
ذات مساء ولجت المنزل لأجده غارقا في وجوم فظيع، أخبرتني أختي الصغيرة وأنا بعد لم أتجاوز عتبة بابه أن أهل سميرة قد ردوا إلينا هدايانا. بدا وجه أمي متيبسا، وعينا أبي حائرتين في محجريهما، بينما حاصر إخوتي الهدايا في الردهة ينهشونها بحثا عن غنيمة تناسبهم.
شعرت وأنا أعود أدراجي من المشهد الذي لم أتصور حدوثه يوما، صوب أي طريق يعزلني مع نفسي بعيدا، وكأن رمحا ملتهبا دُق بين أضلعي فأوقد النار في كل جسدي، ثم ذرت رمادي رياح عاصفة فصرت تائها عن ذاتي.
كلمتها عبر الهاتف، ذكرتها بحبي الكبير لها وأنني متشبث بها لأن روحي تشتبك بروحها، وأن توافقنا قادر على أن يجاوزنا كل ما يعترض طريقنا. ردت وكأنها تغالب نفسها:
- كن واقعيا! أحلامك مجرد سراب في صحراء أيامنا.
توالت اتصالاتي العقيمة حتى انعدمت، ثم لم يعد يوصلني بسميرة غير ألبوم الصور، أقلّب صفحاته وأحلّق مع كل صورة منه إلى المكان والزمان اللذين التقطت عندهما. أدمنت على مراجعته كل ليلة ما عجّل نفاد صبر أخي الذي يقاسمني الغرفة، فقد كان نور المصباح الذي أبقيه متوهجا حتى وقت من الليل يمنع حصوله على درجة الظلام الملائمة لإغماض جفنيه، مما اضطره وبعد مشادات متكررة بيننا إلى هجر الغرفة وتركي والألبوم على انفراد تام.
وما كان يزيد تعلقي بالألبوم هو كونه يؤرخ لفترة الخطوبة بانتظام زمني وواقعية في اقتناص اللحظة، وقد بذلت جهدا ليس بالهين لجمع الصور وترتيبها وتحقيق تاريخ التقاطها. فتلك صورة عن أول لقاء رسمي بين أهلي وأهل سميرة، وهناك صور أُخذت عند زياراتنا المتبادلة في الأعياد ورمضان، وهذه صور كثيرة عن خرجاتي برفقتها تؤكد ما مررنا به من لحظات مميزة، والمتصفح المتأمل للصور سيلاحظ بريق السعادة في عينينا وتوهجها على ملامحنا. إنه أصدق شاهد على ما أمضيناه من أوقات طيبة.
ذات صباح استيقظت مع السادسة على غير عادتي، ارتديت ملابسي ثم تناولت الألبوم من تحت الوسادة حيث هو دائما، أخذت قلما وورقة مقواة ناصعة البياض، ثم كتبت على صفحتها: «سميرة، لا أريد أن أحدثك عن مدى حبي لك، ولكني فقط أطلب منك أن تتأملي هذه الصور ثم تسألي نفسك: هل من السهل على أي إنسان مهما كان غنيا أو نافذا أو... أن يشكل في فترة وجيزة ألبوم صور كألبومنا؟ إنه شاهد لا يشهد بزور على أننا قررنا في النهاية بيع سعادتنا بثمن زهيد». ألصقت الورقة على غلاف الألبوم ثم وضعته داخل ظرف وبعثته عبر البريد العاجل.
في تلك اللحظة وبعد تخلصي من الألبوم وهجران الذكريات المتقافزة من صوره كلما ناجيته في ليلي الطويل، شعرت أخيرا بأني قد انفلت من حلقة سميرة حيث بت قادرا على الركض خارجها بكل حرية بحثا ربما عن حلقة جديدة.
ذات مساء وحين أوصدت باب غرفتي وهممت بتغيير ملابسي رن هاتفي، ففوجئت بأن سميرة هي من يتصل، بدت غاضبة وهي تصف تصرفي ببعث الألبوم إليها بالمتهور وتلقيها رسالة بهذا الشكل يسيء إلى سمعتها بعد فسخ خطوبتنا، ثم أقفلت دون أن تمنحني فرصة للتعقيب أو الاعتذار على الأقل.
استلقيت فوق السرير دون حتى أن أتخلص من حذائي، راحت غصة تتشكل بحلقي وتدفع بالدموع للتجمع عند مقلتي. لعلي الآن فقط سأتذوق طعم الألم الحقيقي الذي تجاهلته مررا بعيش وهم اللحظات من خلال تقليب صور الألبوم. فها هي المرأة التي اخترتها لتكون أميرتي قد اختارت التخلص مني.
 ظللت أنظر بعيني الدامعتين إلى مصباح السقف دون أن تؤثر شدة الضوء المنبعثة منه في قوة تحديقي. ثم رن هاتفي مجددا، كان نفس الرقم يطلبني، ترددت في الرد أولا ثم ضغطت على الزر، ليصلني صوت سميرة: هذا الألبوم لا يمكن أن يعيش مع واحد منا دون الآخر، إما أن نحرقه وإما أن نجتمع به. وأنا صراحة لا أستطيع حرقه.


-------------------------------------------
* ألبوم صور: 2011 - توفيق باميدا           "تابعونا على فايسبوك من هنا"

معالم الكتابة الروائية في " المحارب القديم " لتوفيق باميدا

يتميز توفيق باميدا بقدرة على السرد، في بناء عوالمه الواقعية والتخييلية، وقد تشكلت هذه العوالم من ثلاث حكايات؛ الحكاية الأولى تتحدث عن الابن ...