الاثنين، يونيو 24، 2013

إصرار - القصة الفائزة في مسابقة قصص على الهواء لشهر فبراير 2009

بسم الله الرحمن الرحيم







(منقول بتصرّف عن موقع: مجلّة العربي  (http://3arabimag.com

مجلة العربي - العدد 603 - 2009/2 - آداب - فخري صالح

قصص على الهواء
* قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية

---------------------------------------------------------------------

- لماذا اخترت هذه القصص؟         (فخري صالح: كاتب وناقد أردني)

 "تتخذ قصة «إصرار» لتوفيق باميدا من قوة العزيمة مادة لها تنسج منها حكاية قصيرة مكثفة مختزلة. من خلال الوصف الدقيق لرحلة الرجل وحماره بحثا عن جذع شجرة يحتطبه الرجل. ويتميز أسلوب الكاتب بنوع من المتابعة السردية الحثيثة للجو العاصف وسقوط الثلج المتتابع والوهن الذي يصيب الرجل وحماره في رحلتهما الصعبة في عالم يكتسي بالبياض ويهدد بالموت. إنها قصة مكثفة تدرك معنى القصة القصيرة وكثافة عالمها وطاقتها الفياضة التي تنبع من تركيزها بؤرة عدستها على خيط دقيق من الأحداث، ليصل الكاتب في النهاية إلى لحظة التنوير النهائية. "
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

                                              
إصـــــرار
توفيق باميدا (المغرب)

         يوم آخر شديد البرودة، على نقيض ما صرح به المذياع فإن الشمس لم تطل من تحت السحاب الكثيف لتبث ألسنتها الدافئة عبر الوجود، فالثلج لا يزال ساطعاً بعناد فوق الأرض التي تناسى الناس كيف كان شكلها قبل أن تبيض.

       بدت خطواته أكثر تهالكا وظهره أكثر انحناء وهو يخط طريقه، متبوعاً بحماره ذي المركبين الخشبيين، يجره بقوة من لجامه بينما تقبض يده الأخرى على فأس متوسطة الطول. عبر خيشوميه وفمه تتسرب أنفاسه الساخنة التي ما تكاد تلامس النسائم الباردة حتى تصير بخاراً.

الأفق الأبيض أمامه يزداد امتداداً واتساعاً، حتى التلال البعيدة باتت كشريط أبيض يؤطر النظر داخل لون واحد زاه. للحظة، قد يفكر في التنازل عما انطلق من أجله، لكن صورة أجساد أبنائه وهي ترتعش تحت البطانيات الثقيلة وعيونهم المتراقصة تحت ضوء الشموع الكئيبة جعلت كل شيء يبدو هينا.

    في بداية الشتاء كثر الحديث بين الناس عن الصبية الذين ماتوا من شدة البرد في الجبال المجاورة، أحس بالقلق يستوطن كيانه، ثم تضاعف حين أبان الشتاء عن أنيابه الحادة. ألسنة اللهب كانت كفيلة بأن تصد الهواء البارد بعيدا عن بيته، لكن حين أتت النار على كل ما خزن من الحطب، تحول الكوخ الفسيح إلى ثلاجة تجعل كل من فيها يرتجف وأسنانه تصطك.

     قبيل الفجر جر حماره وبدأ رحلته لعله يصادف أغصاناً متناثرة على الأرض، ولكن الثلج كان كثيفاً بحيث لم يكن ممكناً تمييز الأشياء التي يغطيها، والإقدام على الحفر سيكون مضيعة للوقت. المسيرة تطول ولا شيء يلوح فوق الأرض، التعب يزيد قدميه تجمدا والحمار أبان عن استسلام غريب وهو يصعد إحدى الربوات. راح يفكر في الأشجار التي تتناثر في المنطقة لعله يلمح إحداها في مكان قريب، بيد أن الوجود بدا صفحة واحدة بيضاء.

     وحين لاح طيف اليأس قريبا منه، فراحت قواه تخور تدريجياً إلى حد أنه استأثر الموت فوق الجليد وحماره على الرجوع صفر اليدين إلى منزله، لاح في الأفق أمل جديد. كرة سوداء تقبع فوق تلة قريباً منه، حين بلغ القمة وجد كرته السوداء هي ضالته التي خرج ينشدها، جذع شجرة أو ما تبقى من الشجرة. بين الغبطة والنشوة وجد نفسه يهوي بكل قوته على الجذع، يضرب ويضرب ومع كل اصطدام بين هدفه والفأس كان جسمه يرتد بقوة إلى الخلف. ثم توقف ليكتشف أن فأسه لم تترك أثرا على الجذع، لقد كان متجمداً، متصلباً بفعل الصقيع والثلج.

    لم يكن من حل أمامه سوى تسديد ضربات أكثر ضراوة، جمع أنفاسه وأحكم قبضته للفأس، رجع خطوة إلى الخلف وركز بصره على مكان محدد في الجذع. وقبل أن يهم بتسديد ضرباته أحس بنعومة وبرودة حبيبات الثلج المتساقطة على وجهه. ثم سرعان ما صارت الكتل البيضاء تتشكل فوق كتفيه ورأسه وظهر حماره، وفوق الأرض بأحجام أكبر. نظر صوب الأفق الذي بدأت معالمه تتبدل واستنتج أن الرجوع بعد دقائق سيكون صعبا.

   حلق صوت فأسه وهي تهاجم الجذع عالياً مخترقاً مرة أخرى الصمت الأبيض، بضربات أقوى أدت أخيراً إلى إحداث شرخ صغير. توقف ليستجمع أنفاسه، أحس بسخونة في يديه، كانت تشققات رقيقة قد تقاطعت عبر راحتيه، ما لبثت أن احمرت وازدادت عمقاً واتساعاً، كان الألم يزداد حدة كلما زاد من شدة إحكام قبضته للفأس، بينما وجدت القطرات الحمراء مستقراً جديداً، قرب قدميه، مازجة بين حمرتها والبياض، مصرة على أن تلون الثلج بلون آخر.

    لم يعد للألم وجود حين راحت صلابة الجذع تستسلم بخضوع للضربات العنيدة المتتالية، التي أرغمت الفأس على اختراق مركزه. هذه المرة لم يتوقف عن توجيه الضربات إلا حين رأى الجذع وهو يهوى صريعاً، صاح في غبطة بأعلى صوته ولكن الطريق التي جاء منه لم يعد لها وجود، تناثرت الكثبان الثلجية بأحجام يصعب اختراقها. شد الحمار من لجامه بعد أن ربط الجذع بحبل ثم مده ليلفه حول جسم الحيوان.

    انغرست قدمه بعمق إثر أول خطوة، ثم تتالت الخطوات المصحوبة بآلام في اليدين المتشققتين، في الظهر وفي كل الجسم. هوى على ركبتيه، ثم نهض، ثم هوى من جديد، ثم هوى على وجهه. امتلك التعب كل جسده، خرت قواه عن آخرها. تمسك بعنق الحمار في محاولة للنهوض. تنفس بصعوبة، ثم واصل بصعوبة خطواته الثقيلة.

    راحت صورة الأفق تتغير وباتت الأكواخ البعيدة تقترب وأبعادها تكبر. ثم وأخيراً..ومن وسط الصقيع المتخفي تحت الظلام الدامس، انبعثت نار صارخة تهب للمكان وأناسه دفئا ونورا.

(منقول بتصرّف عن موقع: مجلّة العربي  (http://3arabimag.com

.

معالم الكتابة الروائية في " المحارب القديم " لتوفيق باميدا

يتميز توفيق باميدا بقدرة على السرد، في بناء عوالمه الواقعية والتخييلية، وقد تشكلت هذه العوالم من ثلاث حكايات؛ الحكاية الأولى تتحدث عن الابن ...