الثلاثاء، ديسمبر 31، 2019

عندما تُسلب حرية الإبداع - قراءة مختصرة في رواية ضجيج العصر لجوليان بارنز


يعتبر جوليان بارنز من كتاب ما بعد الحداثة في الأدب الإنجليزي. وتتميز كتاباته الروائية بسبر ذاكرة أبطاله، ووصف حالاتهم النفسية والذهنية عبر أزمنة مختلفة من حياتهم. كما أنه يتجنب الاعتماد على الأساليب الكلاسيكية في الحكي، إذ يميل إلى استخدام تقنيات تيار الوعي.  ويناقش القضايا بعمق ورؤية فلسفية، تتطلب تأنيا من القراء عند تناولها. كما فعل في روايته الإحساس بالنهاية المتوجة بجائزة مان بوكر 2011.
وفي آخر أعماله المترجمة إلى العربية؛ رواية "ضجيج العصر"، ينطلق جوليان بارنز من سيرة حياة الموسيقار الروسي ديمتري شوستاكوفيتش، ليصوغ لنا رواية تأمليّة في علاقة السلطة بالإبداع الفني، خلال فترتي حكم ستالين للاتحاد السوفييتي وما بعدها.
يغوص بارنز في ذاكرة بطل الرواية، شوستاكوفيتس، فيجعل الأحداث والأفكار تقفز بنا إلى أزمنة مختلفة. ففي كلّ مرّة يكون رجوع إلى الخلف وتقدّم ثمّ رجوع آخر. فيكون عليك أن تتريّث قبل أن تبدأ في نسج خيوط الأحداث.

بارنز قسّم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: في الرواق، في الطائرة، في السيارة. لكلّ مكان في هذا التقسيم دلالته التي ترتبط بما ينعته بارنز بمحادثات السلطة الثلاث. هي تختلف عن بعضها في كيفيّة وزمن الحدوث، لكنّها تصبّ جميعا في اتجاه نفس الهدف، وهو إعادة صياغة ديمتري شوستاكوفيتش على المنوال الذي تريده السلطة.
"أرادوا هندسته كما فعلوا مع البقيّة. أرادوه أن يعيد صوغ نفسه، كعامل مستعبد في قناة البحر الأبيض. " (ص.: 111)
 محادثات السلطة الثلاث
§      المحادثة الأولى:

منذ البداية يكشف لنا الكاتب عن السبب الرئيسي الذي سيدخل شوستاكوفيتش في دوّامة الصدام بالسلطة، والذي تجلّى في عدم إعجاب السلطة، في شخص ستالين، بأوبراه: 

"السيدة ماكبث من متسنسك". لذلك نجد أنّ بارنز قد تعمّد وضع القارئ داخل مشهد عزف الأوبرا على مسامع ستالين ورفاقه، وكيف جاء مباشرة ردّ فعلهم. 
الآن، ينقلب كلّ شيء رأسا على عقب بالنسبة لشوستاكوفيتش. فصحيفة البرافدا، التابعة للحزب الحاكم، تصدر مقالا ينال من أوبراه، إذ وصفتها ب"الضجيج بدل الموسيقى"، وجعلت منه هو "عدوّ الشعب". وقد كان هذا كافيا لأن يجعل النقاد الذي أشادوا بالأوبرا في البداية ينقلبوا ضدّه، منوّهين بما قالته البرافادا، رغم النجاح الذي حقّقته الأوبرا خارج الاتحاد السوفياتي، بل إنّ السلطة رأت في ذلك النجاح دليلا قاطعا ضدّ صاحبها. فكانت النتيجة أن تمّ حظر أوبراه: "سوف تقعّد أوبراه الآن كما كلب أغضب سيّده فجأة فأمره بالقعود". ولمّا كان شوستاكوفيتش مقرّبا من شخص مدان (المارشال توخاشفسكي) كانت النتيجة أنّ تحرّك السلطة آلتها البيروقراطية فتخضعه للاستجواب والتحقيق في مؤامرات سياسية.
بالنسبة للموسيقيّ الشاب، وفي ظلّ التصفيات الجسدية والمنافي، فحياته قد انتهت. وقد برع الكاتب في وضعنا أمام صورة شوستاكوفيتش وهو يقضي الليل بالرواق عند باب المصعد بمحلّ سكناه، يحمل حقيبة أغراضه، منتظرا أن يجيء رجال السلطة لأخذه قصد التصفية أو النفي. وهنا لم يفت بارنز، أن يزيد مشاعر القلق نضجا في خيال القارئ، حين أشار إلى أن شوستاكوفيتش يفعل ذلك حماية لزوجته وابنته النائمتين من أن تطالهما أيضا مخالب السلطة.

§      المحادثة الثانية:




ينقلنا بارنز الآن إلى الطائرة، عبر رحلة شوستاكوفيتش من روسيا إلى الولايات المتّحدة، في إحالة على الحرب الباردة، وكيف أنّها تلقي بظلالها أيضا على عالم الموسيقى. لذلك قد يصير الملحّن الموسيقي عدوّا يشكّل تهديدا للنسق الإبداعي الذي تفرضه السلطة على الكتاب والفنانين وغيرهم، فتبدأ السلطة بإيجاد حلول، للنيل من هذا الخصم المفترض مستخدمة أمكر الحيل، ببساطة تجعل من ديمتري شوستاكوفيتش أحد ممثلّي الاتحاد السوفياتي بالمجلس الثقافيّ العلميّ للسلام العالمي بنيويورك، يلقي خطابا أعددته له آنفا، عبره ينتقد موسيقاه وموسيقى آخرين لا طالما قدّرهم. وبذلك، يعطينا الكاتب انطباعا إلى أنّ السلطة تعمد على تطويع المتمردّين على النهج الموسيقي الذي تحدّده هي، بالدفع بهم إلى الاعتراف بزلّاتهم، والكفّ عن إبداعات تروم الفردانية وتتعارض مع الفكر المجتمعيّ المشترك: "السلطة إمّا أن تقتلك أو تلحقك بك العار".
§      المحادثة الثالثة:
يحدث ذلك في زمن آخر. إذ يبدو أنّ شوستاكوفيتش وقد تقدّم في العمر، يجلس في المقاعد الخلفيّة لسيّارة بسائق تحت الخدمة. فبعد وفاة ستالين، تجيء حقبة جديدة، مغايرة.  هذا ما يبلغنا به بارنز مباشرة. ويتنفّس شوستاكوفيتش الصعداء. لكن السلطة، مع كلّ التغييرات التي طرأت، ما تنفكّ تعود إليه، وتعرض عليه بإلحاح منصب رئيس الاتحاد الفدرالي الروسي للملحنين. وبينما هو يتشبّث بالتملّص من ذلك، تخبره السلطة عبر رسولها "بوسبلوف"، أنّ عليه أوّلا الالتحاق بالحزب الشيوعي. يستميت شوستاكوفيتش هذه المرة أمام السلطة، لكنّ ضغط  بوسبلوف كان رهيبا: "تحت ضغط السلطة، تتصدّع النفس وتتشقّق".

§      محادثات من جانب واحد:
بعد ذلك اسمترّت السلطة في الحديث إلى شوستاكوفيتش، ليس كالمرات السابقة. الآن، هو يصغي فقط وينفّذ. على وجه التحديد هو يوقّع باسمه مقالات ستنشر في البرافدا، لم تخطّها أنامله، تنال من موسيقيين وكتاب، رغم تقديره لكثير منهم.

تعبّر هذه المحادثات، عن الترويع الذي يتعرّض له الإبداع في ظلّ سلطة لا تريد سماع غير صدى صوتها، تردّده الجماهير خلفها، فتحرّك لأجل ذلك دواليبها، لإحكام السيطرة، والنيل من أيّ صوت آخر، مهما كان صغيرا، تشكّ في أنّه قد يربك الأداء العام لأوركستراها أثناء عزف سيمفونيتها.
شوستاكوفيتش، كنموذج عن ذلك، كان حالة إنسانية هشّة واجهت وحشا ضاريا. لذلك نجده (شوستاكوفيتش)، يغوص في ذاته بحثا عن أجوبة لأسئلته وعن مبرّرات لأفعاله. لقد رأى نفسه جبانا، مادام على حسب رأيه، قد عجز عن الانتحار وعن المواجهة. لكنّه في المقابل، وجد مبرّرات لذلك: "لكن لم يكن من السهل أن تكون جبانا...، لأن تكون بطلا عليك ان تكون شجاعا للحظة فقط... لكن، لأن تكون جبانا، عليك أن تقبع في مهنة تستمرّ مدى الحياة." (ص.: 185). ووجد مبرّرات أيضا لإمكانية أن يجمع الإنسان بين صفتي الفساد والصلاح في نفس الوقت، مادام هو واثقا من كونه صالحا. بينما قد يراه الناس، حسب ما جعلته السلطة يقترف، شخصا فاسدا.
ضجيج العصر رواية عن ماهية الفنّ، عن الحقيقة، عن الحرية، وعن الوعي، عن معاني الشجاعة والجبن، وعن آخر ملاذ يمكن أن يبقى أمام إنسان سُلبت حياته وروحه في مواجهة منظومة سلطوية تمتلك من أصناف طرق الترويض ما يجعل الصمود أمامها أمرا صعب المنال.

* جوليان بارنز: روائيّ إنجليزي من مواليد 1946. عضو الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوميعتبر من كتّاب ما بعد الحداثة في الأدب الإنجليزي. فازت روايته "الإحساس بالنهاية" بجائزة مان بوكر سنة 2011.
** ضجيج العصر: صدرت الطبعة الأصلية سنة 2016، بينما صدرت النسخة المترجمة، سنة 2019 عن "مجموعة كلمات"، الشارقة. ترجمة: عهود المخيني.



"توفيق باميدا"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معالم الكتابة الروائية في " المحارب القديم " لتوفيق باميدا

يتميز توفيق باميدا بقدرة على السرد، في بناء عوالمه الواقعية والتخييلية، وقد تشكلت هذه العوالم من ثلاث حكايات؛ الحكاية الأولى تتحدث عن الابن ...