(ملحوظة: هذه القصة تحتوي على مشاهد قد يعتبرها البعض مؤلمة أو
صادمة)
*******************************************************
إهداء:
إلى كلّ ذي
ضمير وإحساس، يتمنّى أن يتوقّف شيء بالغ البشاعة اسمه: الحرب
*******************************************************
اليوم أعود من الحرب. ولا أريد أن أتحدث عن الحرب.
تستقبلني
القرية محتفلة مبتهجة، بينما عقلي يطير إلى قرى أخرى ودواوير أعلم أن نساءها الآن يلطمن وجوههن ويواري رجالها دموعهم
عن أنظار أبنائهم، لأن أبناءهم الذين كانوا رفقتي على خط النار لم يعودوا أو عادوا
في صناديق.
لا أريد
أن أتحدث عن الحرب، لكن جدتي وبعد أن قبّلت رأسي وأطلقت زغرودة أيقظت شعر جسدي
المتحفز تسألني:
· هل طردتم العدو يا بني؟
أنظر
بعيدا عنها دون أن تسمع مني ردا.
أُخذنا
إلى بلد آخر لنحارب العدو، شهورا ظللنا هناك نتطاحن معه حتى أُخبرنا أنه قد عاد من
حيث أتى، فعدنا نحن أيضا من حيث أتينا. ثمّ أُعلن أننا حققنا النصر. لكنني لم
أتذوق طعمه، أقصد طعم هذا النصر.

تأخذني
أمي بقوة بين أحضانها، فيحسسني الدفء المنبعث من أرجاء جسدها أني ما زلت ذاك الطفل الصغير الذي كلما تلقى أمرا لا يسرّه عاد
ليرتمي بين ذراعيها ساكبا دموعه وشكواه. ولولا تلك العيون التي التفت من حولي
متطلعة إلى هذا العائد لتوّه من الحرب، لبكيت الآن على صدرها بكاء لا أدري أتروي
مياهه نبات الأرض أم تحرق نيرانه زهورها.
لا أريد
أن أتحدث عن الحرب... بل لا أريد حتى تذكّرها، لكن الفتى الأشقر الذي وقف الآن عند
الباب بقامته المتمايلة كجريد نخل صمّم أن يبقيها حاضرة بوضوح، بألوان طبيعية
وأبعاد واقعية، فرأيتني واقفا عند مدفعيتي محاطا بالرفاق محفّزين لأي أمر، بيد أن
الأمر انطلق من الجهة المقابلة، تلاه انبعاث لمجموعة من المشاة، لم ندر من أيّ جهة
نبتوا. كانت فكرة ذكية لم نستوعب حركاتها إلا حين صار رجالنا يتساقطون تباعا. لينطلق
نداء قائدنا متأخرا متكسّرا، قطّعت أصوات البنادق حروفه:
· ا...ن...س...ف !
حين
أفاقت أذنيّ من الصمم الذي طمس على طبلتيهما انفتح بصري مباشرة وفوهة مدفعي موجهة
صوب جندي ببندقية يركض نحوي. فتى أشقر نحيف، خطواته طويلة أو هكذا بدت لي حينها،
شعر رأسه الأصفر كان ناعما، لاحظت ذلك في خصلات شعره التي تدلت من تحت خوذته فوق
جبهته وعنقه، كان وجهه وسيما وشيء من براءة الطفولة لم يغادره بعد.
انبعث
مرة أخرى صوت القائد يشق هذه المرة بقوة وكل وضوح الضوضاء المسيطرة، ويشق سمعي
وكأن الأمر موجّه لي دون غيري:
· انسف!
أنا لا
أريد أن أتحدث عن الحرب...
التمّ حولي صبية القرية متعطشين أن أحدثهم عنها،
يتبادلون النظر إلى الصورة التي سلّمتها أمي لهم. صورة تظهرني جالسا فوق سطح
مدفعيتي أرفع بندقيتي نحو السماء بينما ترتفع بسمة عريضة على وجهي، أذكر أني أخذت
هذه الصورة عند التحاقي بخط النار، كانت الأولى هناك والأخيرة، لأني لم أعد بعد
ذلك أرغب في التقاط صور، باستثناء تلك التي تُأخذ لنا ونحن في النظام أو عائدين نحمل
رايات النصر.
ظل
الصغار يطرحون عليّ الأسئلة، ثم يعودون للهمس في آذان بعضهم:
· لماذا لا يردّ؟ لماذا لا يتكلم؟
ناولتهم
بعض الحلوى التي وُزّعت علينا ليلة إعلان النصر، حيث لم يستسغ حينها حلقي المملوء غُصصا حلاوتها الزائدة،
فاحتفظت بها في علبة بلاستيكية.
· إنها لذيذة!
صاح أحد
الأطفال قبل أن يمضوا مبتهجين بها بعيدا عني.
بل أنا لا
أريد حتى أن أتذكر الحرب... لكن الفتى الأشقر المار قريبا من مجلسي بهامته
المنكسرة يأبى إلا أن يعيد ذاكرتي إلى هناك.
مضت
ثلاثة أيام من رجوعي إلى القرية. ولايزال لساني عاجزا عن تركيب العبارات، فقط بعض
الكلمات المتزاحمة. لكنّي كنت أتكلم في مكان آخر. حينها، يرتفع صوتي بقوة متجاوزا
جدران دارنا، فيسمعه كثير من الجيران المستيقظين أو المتنبهين في نعاسهم، لأن صوتي
لم يكن يرتفع إلا حين يكون الجميع نياما. وفي الصباح تحكي لي أمي وجدّتي كيف كانت
جدران البيت ترتج من هول صراخي وكيف كانوا هم يقفزون من مضاجعهم مذعورين تكاد
قلوبهم تغادر أقفاصها. محاولين بعد أن تستوعب عقولهم الغارقة في دهاليز النوم ما
يجري حولهم، أن يفكّوا شفرات الكلمات المتقطعة التي تندفع كقذائف الذبابات من جوفي
ثم تتساقط شظايا مشتعلة على أحلام من بلغهم مدى صوتي.

لا أريد
التحدث عن الحرب. لكني حين أخرج للتجول عند أطراف القرية صباحا أو مساء، لا تستطيع
عيناي أن تستمعا بالجمال الذي يغطي تلال البادية المجاورة، ولا أذنيّ أن تطربا
بالهدوء المسافر بسكينة في السماء، والمنبعث بإصرار من كل الأشياء المحيطة بممشاي،
لأني حينها أكون واقفا عند مدفعيتي أتأمل بذهول الجثث المتناثرة والآليات المحترقة
والتراب الذي لم يستسغ شرب اللون الأحمر. أتمعّن دون انقطاع وجوه رفاقي التي لم
تعد تنطق بشيء أو تنبض بعرق. لقد انتقل تشوه الحرب إلى قريتي الجميلة الهادئة فلم
أعد أرى حولي غير أجساد بأعضاء مبتورة ووجوه محترقة وملامح اختلط بعضها بالآخر،
فيتملكني تصميم أكبر على أن أحتفظ بخيار الصمت كلما سألني أحد أن أكلمه عن الحرب.
لا أريد
أن أتحدث عن الحرب، لكني ربما سأكون مضطرا لذلك، لأن الفتى الأشقر اقتحم صمتي
وأيقظني من ذهولي حين سألني:
· هل من الممكن أن تندلع حرب أخرى قريبا؟
أحرر
لساني من انعقاده القديم بسؤال حفظته عن قادتي:
· ولماذا تسأل؟
· أريد أن أكون مثلك، محاربا، أتغلب على العدو وأطرده، ثم تحتفل القرية
بعودتي منتصرا.
اقشعر
بدني وأحسست أن الدموع ستندفع من مسام جلدي، بينما كان كثيرون من أهل القرية قد
التفوا من حولنا يترصدون حديثي الذي انتظروه منذ يوم عودتي. نظرت في عينيّ الفتى
نظرة عميقة لم يقطعها رمش عين بينما بذهني تتجمع جميع الأزمنة.
· لقد كان مثلك، يشبهك كثيرا، كأنك هو وهو أنت. كان يركض شاهرا بندقيته
نحوي، دون أن ينتبه ربما إلى أنه كان في مرمى فوهة مدفعيتي. كان رفاقي يتساقطون من
حولي، ورأسي يزداد انتفاخا بأمر يردده قائدي، وهو يركض صوبي، في مثل سنّك، هامته
كهامتك، شعر رأسه كشعر رأسك.
توقفت
عن الحكي، فأنا لا أريد أن أتحدث عن الحرب، لا أريد أن أتذكرها حتى، خصوصا هذا
الجزء منها. نطقوا جميعا في صوت واحد، وكأنهم يرغمونني على الإكمال:
· ثم ماذا؟
فأجبت،
مرتعشا، باكيا:
· ثم نسفت رأسه !
*********************************************************
- توفيق باميدا - (2011) "تابعونا على فايسبوك من هنا" |